إدريس الأندلسي: شجب الكلام عن الفساد في البرلمان.
انسحب فريق برلماني من جلسة دستورية، وعبر عن شجبه لعمل مؤسسة دستورية تحارب الرشوة وتسعى إلى تعميم النزاهة ووقاية الوطن من أفعال المفسدين. جاء انسحاب البرلمانيين في مرحلة تاريخية يتوق فيها المواطن إلى الانعتاق من سطوة الفساد وآثاره على العباد والاقتصاد. ينسحب برلماني أمام أرقام الرشوة، وهو الذي أقسم على محاربة الفساد وقدم في ذلك خطبًا عصماء. انسحب لأنه يظن أن تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها يستهدف حزبه وعشيرته وأصدقاءه، وربما من لهم القدرة الكبيرة على تمويل الحملات الانتخابية.
سقطت الممارسة السياسية في مستنقع خطير يهدد الحاضر والمستقبل. صدق من قال “اللي حشمو ماتوا”، وتخلوا عن أقنعتهم، وزادت قدرتهم على الافتخار بالدفاع عن الفساد. أصبح صوتهم يجلجل داخل البرلمان. تراكمت ثروات لدى مسؤولين وغيرهم دون أن يعرف مصدر هذه الثروات، وهذا الاغتناء السريع خارج كل قواعد التجارة والصناعة والزراعة وقطاع الخدمات. يجب التأكيد على أن عمليات غسيل الأموال تنوعت وكثر فيها الابتكار، وقريبًا ستتحصن بالذكاء الاصطناعي. ويظل العارفون بأسرار التبييض مبدعين في صنع اللعبة الانتخابية وتملك القرار في الجماعات الترابية الجهوية والمحلية وحتى البرلمان. أصبحت بعض المقاهي والمطاعم الفاخرة تقدم وجبات بأسعار لا تنافس. ويظل سؤال التعجب مقرونًا بأهمية عملية الغسيل. ولنا في العملية الإجرامية التي جرت بمقهى “لاكريم” بمراكش قبل سنوات، خير دليل على عمليات غسيل أموال تجار المخدرات.
وتتم عمليات إفساد تدبير الشأن العام داخل كثير من الإدارات التي ترتكز خدماتها على تسيير مرافق عامة أساسية بالنسبة للمواطنين. ولا تزال الصفقات العمومية مرتعًا للفساد والاغتناء السريع وغير المبرر لبعض المسؤولين الذين أصبحت ألقابهم تقترن بالسيد 10% أو 20%. ولا تزال عين الرقابة ضحية رمد لم يجد علاجًا أصبح متاحًا، ولكنه يظل غير مرغوب فيه. الفساد عملية معقدة ومنتشرة وسط كل الفئات الاجتماعية وكل المؤسسات العمومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. الفساد لا لون له ولا طعم، ولكنه فيروس خطير على المجتمع وعلى كل مؤسساته. الفساد يلبس الجلباب والبذلة العصرية والقفطان والتنورات القصيرة. يتقمص دور اليميني واليساري والإسلامي والعلماني. ولذلك يظل الحكم بالظاهر أول خطوات فضحه. والحكم بهذا الظاهر هو مظاهر الاغتناء غير المشروع وغير المبرر. والبحث في أسباب هذا “الظاهر” موكول للقضاء لفحص البينة.
وسيظل الحدث السياسي الغريب خلال الأسبوع المنصرم هو انسحاب فريق المستشارين التابع لحزب رئيس الحكومة خلال مناقشة ميزانية “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”. برر المنسحبون موقفهم بعدم صحة ما جاء في تقرير هذه الهيئة من تحليل لمستويات تفشي الرشوة حسب القطاعات والمرافق العمومية. كان الرد أن أعضاءها لا تتحكم في أعمالهم أية خلفية سياسية. واعتبر رئيسها أن خلاصاتها غير مسيسة وتتسم بالموضوعية كرأسمال ثمين لمصداقية أعمالها. وكان من الأجدر مقارعة الحجة بالحجة، ولكن الطبع غلب التطبع. يجب شجب كل موقف حزبي يسير في اتجاه إنكار ما يتعرض له المواطن البسيط والمقاول والفلاح والطالب والصانع من طرف المسؤول. ويشكل حدث الانسحاب إنكارًا متعمدًا لظاهرة سلبية وجهلًا بالواقع الذي يجعل اقتصادنا يفقد 2% من نسبة نمو الناتج الداخلي الإجمالي بسبب الرشوة. ويزداد الوضع استفحالًا حين تضيع الثقة في المؤسسات التي يديرها أناس لا يحترمون المؤسسات. وقد تمت الإشارة، منذ إنشاء هذه المؤسسة بموجب مقتضيات دستورية، إلى أن مؤسسات دولية أممية ومالية كالبنك الدولي اعتبرت الشراكة معها ذات أهمية في مجال محاربة الرشوة. قد يتغير أعضاء الهيئة ورئيسهم، ولن تتغير تقاريرها ولو بعد سن ين. الفساد واقع يعبث بالمؤسسات ويهدد الوطن ومؤسسات الدولة. وكل من ينكر وجوده لا يمكن إلا أن ينتمي لزمرة المستفيدين.
يستنكر سياسيون، من ضمنهم وزراء، كل خطاب أو مجرد سرد تجربة إنسانية عن معاناة مواطن أمام جبروت الفساد. حاول بعضهم نعت مناهضي الفساد وتفشي الرشوة بالمشوشين على مسلسل تنمية البلاد. ولا يزال وزير العدل، في مغرب يريد الانعتاق من سلطة أحزاب تم صنعها خارج الفعل السياسي المستند إلى العمل المجتمعي الحر، يحاول منع المواطنين وجمعياتهم من مواجهة كل أشكال الفساد. يخاف السيد الوزير على هشاشة نفسية بعض المسؤولين المتابعين ولا يخاف على تدهور الثقة في المؤسسات.
وقد أصبح من المؤكد أن الكثير من قيادات أحزاب حاضرنا الحزين يريدون خوض أم المعارك ضد المندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، لأن تقاريرها تختلف، في بعض الأوقات، مع تقارير وخطابات الحكومة. يظهر أن الهجمة على المكتسبات والردة الحقوقية تريد الإضرار بما حققه المغرب خلال العقدين الأخيرين. ولكن كثرة الضغط، من طرف زمرة من المنتفعين، قد تدفع الكثيرين إلى اليأس. وهذا ما لا يريده مواطن قلبه على وطنه. أخذوا المليارات ولا يزالون يريدون المزيد بدون الوعي بحمولة عبارة “لقد طفح الكيل”.