التجربة الكفاحية لمجموعة إمديازن دراسة تحليلية نقدية لقصيدة (إكيدر)
مجموعة إمديازن مجموعة غنائية أمازيغية تأسست بإمنتانوت سنة 2000 من قبل عبد الرحيم الحنصالي الملحن وشاعر المجموعة محمد الحنصالي؛ برئاسة جمال الحنصالي الفنان والشاعر العصامي والمترجم والقاص/ مواليد 1977 بقرية “إكي ن تركا” ضواحي مدينة إمنتانوت، أستاذ التعليم الابتدائي، فاعل جمعوي، باحث تربوي، له مجموعة من المؤلفات التربوية والأدبية، وله العديد من المهام، كوسيط تربوي بالمؤسسة التعليمية، بالإضافة إلى محاولات في مسرح وغناء الطفل، نشرت أعماله الأدبية والتربوية في صفحات الجرائد الوطنية والمجلات… والثلاثة كانت لهم قيادة سفينة مجموعة إمديازن بإحكام، حيث ذاع صيتها وتطور أداؤها بشكل بائن وسريع، بحكم تسجيل عدة ألبومات كان لها التميز شعرا، وأداء، وموسيقى، منها “كتيداواياوزمز” سنة 2012 وألبومين آخرين سنتي 2015 و2017 وما حققته من محطات تجاوزت 90 مهرجانا داخل الوطن وخارجه، مثل مهرجان تورتيت بإفران، گناوة بالصويرة، الثقافة الأمازيغية بفاس، تميتاربأگادير، صيف الأودية بالرباط، ذيلت بفوز مستحق بجائزة الخلالة الذهبية.. ثم موسيقى أعالي الجبال بإملشيل، ومشاركة دولية بمدينة فتحية بتركيا، فضلا عن تسجيل ألبومات على التوالي بعنوان “گيزد” وهو الأشهر إطلاقا و”وتكنداوت” أما آخر عمل فني للمجموعة فقد كان عبارة عن كشكول غنائي في زمن كورونا، بعنوان “أيواد” الذي يعني باللغة العربية “تعالى معي”.. ومازال مستقبل المجموعة حافلا بالعطاء والبحث عن الجديد، تتناقل صيتها وسائل الإعلام الورقية والإذاعة والتلفزة ..
ـــ رمز مجموعة إمديازن
ثلاثة رماح شاهقة شقيقة، هم عبد الرحيم الحنصالي، ومحمد الحنصالي، وشاعرنا الأنيق جمال الحنصالي، انحدروا من جبال الهموم اليومية، وفيافي القضايا الإنسانية، فتضافرت جهودهم بالنهل من ينابيع الشعر الزلالية، والبحث عن الترنيمات الشيقة التي تطرب السامع، واختيار اللحن الأسمى، الذي يؤدي بالأغنية الأمازيغية إلى التطور، حتى تتربع على عرش التوهج؛ وهذه العناصر المكثفة، هي التي جعلت المجموعة تحقق مسارا ناجحا، تتناقل صيتها القنوات الإذاعية والتلفزية، والصحف والجرائد، اعتمادا على مجهودات شخصية، انجبت من عقمها الخصبَ، ومن ذبولها الاخضرار، ومن جفافها الرواء..
ولقب الحنصالي، يوحي لنا ببطولة تاريخية للشهيد أحمد الحنصالي، وحتى وإن لم ينتسبوا إليه، فالمقاوم البطل بمنطقة الأطلس المتوسط، وشم تاريخه البطولي بدمه الزكي، حين تحدى حاجز الصمت والتردد ليقاوم المستعمر الفرنسي، بعدما غنم سلاح الفرنسيين في أول عملية ثورية قام بها، واستمر في أعماله الثورية والفدائية حتى الاستشهاد..
ــــ قصيدة العقاب “أكيدر” الأمازيغية المغناة
وحبي للمجموعة، وفي ما تقدمه من منجزات شاهقة تضرب أطناب البعد الإنساني والوطني، دفعني إلى تناول أحد منجزاتها ((قصيدة العقاب ))..
شاء شاعرنا محمد الحنصالي أن يعنون قصيدته ب((العقاب)) والعقاب كما نعرفه طائر ضخم جارح، قوي البنية، رأسه كبير ومنقاره معقوف لتمزيق لحم فريسته، يستطيع الطيران بسرعة بالرغم من أجنحته الكبيرة والعريضة، يمتاز بعضلاته القوية ومخالبه الفتاكة، ما يجعله مخيفا لحيوانات أخرى، أي له أسلحة الدفاع عن نفسه، وفي نفس الوقت صيد فريسته؛غير أنني وجدته في القصيدة يبدو بمنظر الضعيف، الكائن الأعزل، الذي فقد عزته وكبرياءه، المبعَد المتنحي، الذي يعاقر عزلته، فالعقاب إذا رمز للفئة من البشر المسحوقة، قد يقصد الشاعر التي فقدت هويتها، ومقرها واستقرارها، وأصبحت تلعق من كؤوس التهميش والإقصاء؛ أو التي سُلبت حريتُها قصرا، بتهجيرها، أو اعتقالها، أو التي طالها الإهمال فتجردت من حقوقها والعيش بكرامتها؛ هي رسالة نبيلة من مجموعة إمديازن إلى المتلقي ليعي أساليب ضاغطة، ظالمة، تقتل الأحلام، وتغتال المطامح الشيء الذي فجر عدة أسئلة للذات الشاعرة حول مَن جرد العظماء من قوتهم، وهيبتهم، وقتلوا فيهم عنفوانهم وشهامتهم، ومن تسبب في تهجير بعضهم ليعيشوا غرباء في أوطان غير أوطانهم، تاركين جذورهم، وخيرات ونعَم بلدهم، فاقدين هويتهم، يرضخون تحت سياط الذل والمهانة، ومن الذي هزم هؤلاء الأقوياء حتى أصبحوا يذرفون الدمع؟؟
تُرى من كسر أنَفة العُقاب الأعزل؟
ترى من كان السبب في هجرته الفضاء الأزرق !
ترى من أبكاه فذرف الدمع كالشلال الأرعن !
أسئلة تعجبية عميقة اعتمدها الشاعر مبتدئا بلفظة (ترى) بصيغة تعجبية، لبَثّ مشاعره وعواطفه وما يعتمل في وجدانه لإيصال فكرته ورؤياه إلى المُتلقي، فيتقاسم معه التجربة؛ هي أساليب فنية تعبيرية لايخلو أي منجز أدبي نثريا كان أو شعريا منها؛ تأتي دافقة بعد تأمل عميق للكون والذات، تشحنها أحلام منتظرة ومخيلة واسعة، ومأمول يرجى تحقيقه، يغذيها بقوة التطلع إلى معرفة الحقيقة، من أجل التغيير بحثا عن غد أفضل؛ وقد أتت الأسئلة بضمير الغائب ((هو)) من خلال لفظتي ((يا ترى من )) مقرونة بحرف نداء غير مقصود مصحوبة بانفعال وجداني يبعث الأثر ..
ـــ مفارقات وتناقضات قاتلة
فشاعرنا له نفس وضع العقاب اليائس، يعيش نفس الأوضاع المزرية، في واقع موبوء، مجرد من الإنسانية، واقع مجبول بالقهر، لا يعترف بالطفولة، ولا يُؤَمن مستقبل الشباب، ولا يهتم بالمسنين، صراع أبدي يعيشه الشاعر مع ما يلمسه ويعيشه في الواقع، وما يتمناه ويريد تحقيقه، وعدم قدرته على توفير الآليات والأدوات لتحقيق ذلك، يفكر يتمنى، يحلم، لكن تتبخر كل أمانيه وأحلامه في سراب الضياع..
حكايتي تنصهر في ذاك العقاب اليائس
أنا وغيري من أصدقاء الأمس الفائت
ومن يبُستْ أحلامه تحت أشعة اليوم البائس.
وهذه المفارقات والتناقضات القاتلة هي التي تجعل الشاعر يتخذ من قوس قزح مملكته الأبدية، يلون فيها واقعه، يجمل الذميم منه، يصنع له قصورا من الأحلام، يحقق فيه إنسانيته ولو في الوهم، لتبرُد جمرة انفعاله وتوتره .. وتزكي لنا ذلك قولة الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني (( إن الشعر مدرسة الحياة، وهو القادر على تجسير الهوة بين الكثير من مفارقات العالم، وإعطاء إنسانية الإنسان المكانة الراقية والأسمى)).. ففي الشعر يبوح الشاعر، يبكي ضياعه، يحقق عالمه المنتظر، يبني يهدم بحرية دون قيد أو شرط…
وا كَرامتاه ! ها هنا تُباع بأبخس الأثمان.. تحت أسقف الهوان،
وبالبطالة كجميع الخلان.
فيا ويحك يا عاطلا عن العمل..
ـــ المعاناة تشحذ القلم
ولا تقف القصيدة عند هذا الحد، بل تجرُد قائمة من المعاناة، تتجسد في هدر الكرامة، وغياب الحقوق، وتفشي الفقر والقهر، وانتشار الظلم والجرائم، وما تعانيه شرائح واسعة من الذل والبطالة في ظل ظروف قاسية، حيث تتفرخ باستمرار جحافل من حاملي الشهادات، لا مكان لهم في الشغل، أغلقت أبوابَه الصداقة والزبونية والمحسوبية، مما جعل ثلة من الشباب يفكرون في تخطي الحدود، ولو على حساب أرواحهم وحياتهم، بحثا عن لقمة عيش..
يا شقي الإحساس ومنكسر الهمم.
أنا وغيري نتشهّقُ أفقا
نهجر قرىً
نبتغي مدنا
نتعقب نورا
يسطع .. فلا يسطع أبدا !
لقد ألمّ بالذات الشاعرة انكسار مطلق، حين ذبلت أحلامها، وتعطلت أهدافها، فأصبحت مجرد رقم زائد في هذا الكون، لا إمكانية لها للقيام بواجبها، ولا الحصول على حقوقها، فمثلها مثل الوردة، التي تذبل عندما ينقطع عنها الغيث أو السقي، فتتناثر بتلاتها وتتطاير أوراقها أخيرا تسقط صرعى الذبول..
حكايتي أختزلها في وردة
وردة حمراء أبكت غيمة..
حين ذبُلتْ في لحظة..
تفتتْ تيجانها ويبُست أوراقها على حين غرّة !
ـــ التماهي مع الطبيعة لتبديد الكُرَب
أحيانا نتماهى مع الطبيعة الأم الرؤوم ، نناجيها كلما حل بنا الضيق، وتناوبت عنا الكرب، لنبدد همومنا وأحزاننا، فهي المصغي الحكيم لدواخلنا، والكاتم الأمين لأسرارنا، ولا يقل شاعرنا في قصيدته (العقاب) عن البعد العميق للطبيعة للشاعر العربي خليل مطران في قصيدته (المساء ) حين يقول:
يَا كَوْكَباً مَنْ يَهْتَدِي بِضِيائِهِ****يَهْدِيهِ طَالِعُ ضِلَّةٍ وَرِيَاءِ
يا مَوْرِداً يَسْقِي الوُرُودَ سَرَابُهُ****ظَمَأً إِلى أَنْ يَهْلِكُوا بِظَمَاءِ
يَا زَهْرَةً تُحْيِي رَوَاعِيَ حُسْنِهَا****وَتُمِيتُ نَاشِقَهَا بِلاَ إِرْعَاءِ
حين يتيه الشاعر في متاهات الكون، ويحلق به وعيه وخياله في أرجائه، متدحرجا بين شعابه وأغواره، ولا يجد في سراديبه منارة تهديه إلى المرفأ الوضيء، يلتجئ إلى الطبيعة، يحقق فيها ذاته، وينشد فيه أحلامه عندما يعوزه ذلك على الواقع…
آهٍ، طريقي بات متمردا،
صار طفلا شقيا مدللا،
أمسى عجوزا عنيدا متسلطا..
وكلما اتسع التأمل في الكون وكائناته وأشيائه، وكبرت الأحلام، وتناسلت الآمال، وعاسر الذاتَ الشاعرة بلوغُ المقاصد، ازدادت حدة القلق، واسودت الدنيا في عينيها، فيصبح كل شيء تافها، ولا قيمة لها ككائن له حيز وجودي، ولا حتى للوجود نفسه، صبغة تشاؤمية، تلون فضاءها، بلون من الإحباط، وقتل الطموح، والبحث عن الطرق والسبل لتغيير الأوضاع، فتنكمش في ركن من اليأس…
سئم المسافر جرّ خيبات الأمل،
ملّ المزارع حصد سنابل الوهم والعدم،
عاف الموسيقي مذاق اللحن ورائحة الوتر..
انغمس الكلّ في لعبة التيه،
تتساءل متى تأتي اللحظات المشرقة، لترفل الأوضاع في أجواء من الإنسانية الباسمة، تدهس البغض والكراهية، وتشرق الآفاق بالحب والتضامن، فتنتشر الأيادي الرحيمة، وتسود العدالة الاجتماعية، وتتطهر القلوب، ويعيش الجميع سواسية، ينعمون بالعيش الكريم وكافة الحقوق:
لا ندري متى يحين الأوان،
أي المسالك توصلنا إلى برّ الأمان..
ــــ الجانب الفني واللغوي
صيغت القصيدة بلغة تميس بين الرمزي والمباشر سلسة بسيطة، تخلو من الغرابة والتعقيد والألفاظ الدخيلة-وهذه ميزة مجموعة إمديازن- الشيء الذي يطبعها باللبس والإبهام؛ وتعذرِ التقاط المعنى؛ فالشعر الغنائي يحتاج إلى هذا النوع من السهولة، للتمكن من تلحينه، ووضع الترنمات المناسبة له، ليتيَسر فهم الغرض منه، ومن وجهة أخرى فهي رسالة نبيلة، إلى الآخر / المتلقي، لإيصال الفكرة إليه حتى يتقاسم التجربة بنفس الإحساس، والأثر..
ـــ للختم
فمجموعة إمديازن جمعت بين الشعر، والطرب واللحن والغناء، والموسيقى، أي بين ما هو أدبي وما هو فني، وهذا يبين بالكاد أنه امتداد بأسلوب حضاري للأمازيغ، الذين لم يسبق لهم أن عانوا الفراغ الثقافي والإبداعي، بل عرَفوا منذ فجر التاريخ نهضة فكرية متقدمة، تركت لمستها في خدمة الإنسان المهمش، وعليه نحتتْ مجموعة إمديازن نفس النهج بما يعنيه الالتزام من معنى ، مناشدة ثقافة الوجود في تجربة كفاحية، والحب والتسامح، والانعتاق والتحرر؛ إنها تجربة بصدق وأمانة والكلمة الهادفة…
إمديازن مجموعة غنائية تستطيع التغني دونما حرج بالعقاب والغزال وبالشمس والقمر .. لكن بكثير من الشاعرية التي تتسلل إلى وجدان المتلقي بكل سلاسة ويسر، بكلمات قوية في المعنى والبناء، دون غلو دون تكلف دون تصنع .. إنه الشعر الأمازيغي الأصيل.