عبد العزيز كوكاس: الهذيان العصابي لعبد المجيد تبون وعقدة الملكية والمغرب لدى حاكم الجزائر.
ما أخذ يعبر عنه الرئيس الجزائري حول الملكية والمغرب، يشكل حقا سابقة في شكل الخطاب الذي يفترض أن يتسم به أعلى مسؤول في دولة من حجم الجزائر الشقيقة، هناك عقدة اسمها “الملكية” مستحكمة في شخصية تبون وتؤشر على الإسفاف الذي وصل إليه الصراع السياسي بين الجزائر والمغرب الذي ظل دوما يمد اليد للجار الشرقي لفتح الحدود وتدشين علاقة مبنية على روح وفاقية.. هذا الإسفاف يؤكد على حقيقة مرة، تتمثل في معاناة عبد المجيد تبون من عقدة قد يجتهد علماء النفس في وسمها ب”متلازمة المغرب والملكية”.
تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون حول المغرب وذكره للملك والنظام الملكي في أكثر من مرة بأوصاف لا تليق برئيس دولة من حجم الجزائر التي كان لها دوما رؤساء مهما وصلت العداوة بينهم وبين المغرب، يلمحون ويرمزون فقط للمملكة والمخزن دون قدح أو تشخيص مثل الذي تعبر عنه تصريحات الرئيس تبون والتي تحتاج إلى الطب السريري والتحليل النفسي أكثر من التحليل الصحافي/السياسي، فالتوصيفات التي أخذ يتحدث بها عبد المجيد تبون عن الملك والنظام الملكي بالمغرب، لا تبين فقط عن عداء مستحكم، ولكن عن عقدة متحكمة في النظام العسكري الجزائري يجعل كل من يأتي به الجيش إلى الحكم يبدي نوعا من الاجتهاد في إرضاء الجنرالات حتى لو عرض منصب وهبة رئيس الدولة الجزائرية للكثير من الإسفاف الذي لم يكن هناك مبرر له من ناحية السياق السياسي سوى الشعور بعقدة الخصاء أمام بلد جار، أو الاجتهاد في تقديم الولاء للجنرالات للحفاظ على بقاء تبون في منصب الرئاسة ضدا حتى ضدا على رغبة الشعب الجزائري الذي رفع حراكه شعار المدنية بدل العسكرية كهوية للنظام السياسي الجزائري..
إن الحديث عن الملكية كما لو أنها نظام إرث بائد يعود إلى أوهام مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات مع موجة الانقلابات العسكراتية التي أطاحت بالأنظمة الملكية في العراق وليبيا ومصر وغيرها من بقاع العالم، والتي ارتدت على شعوبها قمعا وتقتيلا حتى تعرضت بدورها للانقلاب الشعبي مع هبوب الرياح العربي.. وتعلق تبون بتحليلات مرحلة بائدة دليل على أن تكوينه السياسي توقف في زمن بعيد، وانفلات مختلف التعبيرات القدحية اتجاه الملك والملكية بالمغرب تعكس شعورا دفينا بالغيرة من نظام تاريخي ومن إجماع وطني حول الملكية، ومن استقرار في المملكة تفتقده الجزائر اليوم تحت ظل الحكم العسكري.
العداوة ثابتة والصواب يكون:
ظل الصراع بين المغرب والجزائر منذ حرب الرمال ليس حول من يمتلك الملعقة التي تذيب السكر في الفنجان الإقليمي ولكن حول من يديرها، كان لطرفي هذا الصراع رجال كبار منا ومن الشقيقة الجزائر كانوا حتى في أشد عدائهم حكماء وشكلوا صمام أمان في الكثير من الأحيان وجنبوا البلدين الجارين حربا مباشرة لا تبقي ولا تذر، وبرغم العداء الذي جعل منه هواري بومدين عقيدة سياسية في النظام الجزائري، فقد كانت بين الرئيس والملك الراحلين أخلاق اللعب الكبير، ويمكن الرجوع إلى ما قاله الحسن الثاني في ذاكرته في التنويه بالرئيس الجزائري برغم عدائهما المشترك، لمعرفة كيف كان لكل واحد منهما تقدير نوعي في قرارة النفس، ففي كل خطبه لم يشر الملك الراحل إلى الجزائر بالاسم إلا حينما تورطت في معركة امغالا بالصحراء برجالاتها وعتادها، حيث قال: “أنتظر فقط من الجزائر إعلان الحرب، وسنرى ما سيحدث”، ليرد مجلس القيادة الجزائري ببيان فيما يشبه الطمأنة يقول: “لا حرب مع المغرب من أجل بوليساريو ولا سلم مع المغرب بدون بوليساريو“، لذلك وفي الطريق إلى تحقيق حلم الاتحاد المغاربي، استقبل الحسن الثاني قيادة بوليساريو لإعطاء عربون ود لساكن قصر المرادية.
وكان مبعوثو الحسن الثاني إلى الهواري بومدين من المقربين جدا، وهم أخته للا عائشة وصديقه ومستشاره أحمد رضى اكديرة والجنرالان المذبوح وأوفقير، وكذلك الشأن بالنسبة للرئيس الجزائري الذي كان يبعث أحمد طالب الإبراهيمي أو رجال نافذين مقربين منه، مما كان يخفف بين الفينة والأخرى من حدة الخلاف ويُبقي على صلات الوصل قائمة، وإلا كان المغرب والجزائر قد دخلا معا في حرب مدمرة ومستنزفة للطرفين..
اليوم يبدو أن اللعب قد صغر لدرجة لا توصف، مما جعل العُقد تتراكم وتصبح مثل عقد ذنب الضب بين الجارين، لتبلغ مع صعود عبد المجيد تبون حضيضا غير مسبوق.
عادة ما كانت حرب البلاغات والتصريحات بين المغرب والجزائر تتم بشكل مغلف ودبلوماسي، حيث تشير البيانات الرسمية أو التصريحات الصادرة عن مسؤولي البلدين إلى الطرف الآخر بالجار الغربي أو الشرقي، أو بكلمة “البعض” أو “هناك من”… لكن مع الرئيس الجزائري الحالي تغير الأمر، فحتى قبل صعوده إلى رئاسة الجزائر وأثناء حملته الانتخابية استخدم كلمة المغرب في كل خطبه وحواراته بلا استثناء، وظل يشير – في سابقة من نوعها في العلاقات بين البلدين- إلى الملك بدون أي تحفظ دبلوماسي تمليه الأعراف في العلاقات بين الدول حتى تلك المتناحرة، ففي عز حرب الرمال عام 1965، كان أحمد بن بلة يروج العبارة الشهيرة “حكرونا المراركة” لاستقطاب وجدان الشعب الجزائري للتعاطف مع نظامه السياسي، ولم يفه يوما لا باسم الملك الحسن الثاني ولا باسم المغرب بشكل مباشر، وحتى على عهد هواري بومدين لم يسجل أن الرئيس العسكري ذكر المغرب أو الملك هكذا بشكل مكشوف وفي خطاب موجه للعموم وللعالم، كان الطرفان في عز صراعهما العسكري حتى، يحافظان على لغة دبلوماسية تتلافى الإشارة بشكل مباشر إلى العدو/ الطرف الآخر بالاسم الصريح، إلا فيما ندر.. لدرجة تبدو معها عملية البحث عن كم ورد ذكر المغرب والملكية بالاسم في خطب الرئيس الجزائري الحالي مغرية ويمكن إخضاعها لسرير التحليل النفسي، كما زلة اللسان التي فضحت وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم الذي قال في مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط في إطار الإعداد للقمة العربية الحادية والثلاثين التي كان من المنتظر عقدها في الجزائر: “إن السلطات الجزائرية كانت دائما تحرص على أن تصب الزيت على النار خاصة في علاقتها مع المغرب”.
عقدة خصاء مستحكمة في الرئيس تبون:
عبر عبد المجيد تبون عن هوسه بالمغرب باكرا حتى قبل أن يصل إلى قصر المرادية، فإبان حملته الانتخابية طالب المغرب بالاعتذار عن إغلاق الحدود، وقال بلغة تفتقد للمسحة الدبلوماسية: “في قضية فتح الحدود راني نقول ليك: اعتذر، الحدود ماتغلقتش على ود الصحرا، مانشوهوش الواقع، وأنا أتذكر كانوا عندي شبان جزائريين في الجامعة مشاو يتفسحو تما 3 أيام باش يخرجوهم، لي لقاهم يعطيهم، حاشا الشعب، هو لي هربهم وخرجهم للحدود”، ويضيف “أنت تجي في نهار واحد وقع عندك أعمال إرهابية في مراكش، واللوبي لي عندك تما تزعزع، تاخذ أنت قرار باش تقول ماعنديش إرهابيين.. الجزائريين هوما الإرهابيين، غير تركب على عودك وتقول الفيزا وماعرفتش آشنو”. فالإشارة مباشرة جدا للفروسية المغربية وحركات المخزن وخروج السلطان المغربي على فرسه..
وفي أول تصريح له بعد انتخابه رئيساً للبلاد في 13 دجنبر 2019، وجه عبد المجيد تبون رسالة مباشرة إلى المغرب، ذاكرا إياه بالاسم إن “العلاقة مع المغرب مبنية على الاحترام المتبادل والندية، ولا أحد يزعم بأن له الوصاية على الجزائر”، وأسهب تبون، في أول ندوة صحافية عقدها بعد الإعلان رسمياً عن فوزه بالرئاسيات الجزائرية عن التنفيس عن مشاعر العداء اتجاه الملكية والمغرب بشكل غير مسبوق وفيه الكثير من الاضمحلال والبؤس السياسي.
وفي الوقت الذي لم يصدر عن المغرب رسميا غير تهنئة عبد المجيد تبون بوصوله إلى قصر المرادية، بدا أن الرئيس الجزائري لا يفوت أي فرصة – حتى لو كانت حوارا مع قناة روسيا اليوم أو لوبوان أو الجزيرة- دون ذكر المغرب بالاسم ومهاجمة الملكية بشكل مباشر حتى مع غياب السياق والمناسبة التي هي شرط، بل إنه ذهب بعيدا في هجومه على المغرب عندما اتهم في حوار له مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية يوم 19 فبراير 2020 ما سماه “اللوبي المغربي في فرنسا” بأنه يريد “إفشال” العلاقات الفرنسية الجزائرية.
يبدو عبد المجيد تبون بهذه التخمة المفرطة في الإشارة إلى المغرب في كل تصريحاته الرسمية والصحافية وفي ظرف وجيز من صعوده أعاد انتخابه الجيش لرئاسة الجزائر، كما لو أن هناك بعدا هوسيا فيه الكثير من الإسقاط والتحويل للمشاكل الداخلية لجزائر الحراك الشعبي..
إذا عرف السبب بطل العجب:
هذا وحده لا يفسر أي شيء، إذ في المسار السياسي لعبد المجيد تبون، نجد التفسير الحقيقي لخلفيات هذا الهجوم المتكرر والخارج عن الأعراف الدبلوماسية، فقد بدأ تبون مشواره كموظف عمومي في جهاز الدولة إلى أن أصبح واليا ثم وزيرا للداخلية ثم الاتصال والثقافة فالإسكان قبل أن يعوض سلال في رئاسة الحكومة، أي أنه مجرد موظف إداري ارتبط ترقيه في المسار السياسي بالبنية العميقة للقيادة العسكرية المتحكمة في صنع القرار حتى بعد الربيع الجزائري، فمنذ 1969 كان عبد المجيد تبون واليا في بشار على الحدود المغربية، لذلك ظل يحمل في ذهنه بُعد حراسة الحدود وأن لديه دوما مشاكل مع الجار الغربي حتى وهو في قلب العاصمة وعلى رأس قصر المرادية، يدير دولة في العقد الثاني من القرن 21 كما يدير ولاية على الحدود في نهاية الستينيات من القرن الماضي..
ولأنه تلميذ نجيب للجنرال الراحل العربي بلخير الذي كان وراء ترشيح الجيش لعبد العزيز بوتفليقة وتعيين عبد المجيد تبون مديرا لديوان الرئيس السابق، فإن الرئيس الجزائري الحالي ظل دوما موظفا إداريا أو سياسيا تابعا، ولم يكن له أي استقلال سياسي تحت مظلة الجنرال العربي بلخير الذي كان سفيرا سابقا للمغرب في عام 2005، فهو من كان وراء جل ترقيات تبون لدرجة أنه كلما كان الجنرال بلخير يُستبعد من قلب النظام كان يتم التخلي بسهولة عن تابعه عبد المجيد تبون، وكلما عاد العربي بلخير مس خير عودته عبد المجيد تبون.
هذا المسار الذي احتله عبد المجيد تبون كموظف إداري/سياسي في جهاز الدولة خاصة مع عبد العزيز بوتفليقة، يجعلنا نفهم لماذا يصر الرئيس الجزائري اليوم على ذكر المغرب وملكه بالاسم في أي مناسبة وبعداء واضح حتى بعد الحراك الشعبي، إنه يصر على مغازلة القيادة العسكرية القديمة التي لا زالت متحكمة في مركز القرار السياسي، والدليل هو أنه فرضت عليه كل رموز العهد القديم المعروفة بشدة حساسيتها مع الجار الغربي على رأسها الجنرال سعيد شنقريحة على رئاسة الأركان بالوكالة خلفاً للقايد صالح.
لا يمكن أن نسب المستقبل أو نتفل في وجهه، والعالم يسير نحو تحولات جذرية ستفرض على الكيانات المتقاربة المزيد من التعاون وحفظ الوجود بتعاون اقتصادي يسمح بمنح وزن أكبر للدول من حجم المغرب والجزائر، وأوهام التسلح والريادة الإقليمية لم تعد هي الكفيلة بقياس حجم الدولة وموقعها، إن العداء المجاني المنتصب بين البلدين يضيع على الأجيال الصاعدة من المغاربة والجزائريين فرصا أكبر للنجاح والاستقرار والتفوق على التحديات التي يواجه البلدان.. ومن له أذنان للسمع فليسمع.