
مغرب السرعتين..احتجاجات أكادير تُعري شعارات الدولة الاجتماعية التي كررها أخنوش.
تعيش مدينة أكادير، المعقل الانتخابي لعزيز أخنوش على إيقاع أزمة صحية غير مسبوقة، جعلت المركز الاستشفائي الجهوي الحسن الثاني في قلب عاصفة من الغضب الشعبي والانتقادات الحقوقية بعدما تحوّل من مرفق يُفترض أن يضمن الحق في العلاج إلى عنوان بارز لانهيار المنظومة الاستشفائية أخرجت الساكنة في وقفات احتجاجية متتالية، رافعة شعارات حادة تُدين “الإهمال” و”الاستهتار بأرواح المرضى”.
بالتزامن مع ذلك تلتزم وزارة الصحة الصمت، وتحديدا الوزير أمين التهراوي، القادم إلى العمل الحكومي في أكتوبر 2024، من عوالم التجارة والأعمال، حيث كان نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة “أكسال” المملكوة لسلوى الإدريسي، زوجة رئيس الحكومة عزيز أخنوش، وحاليا، تكتفي الحكومة بترديد وعود إصلاحية لا تجد طريقها إلى أرض الواقع وكل ذلك في مدينة يرأس مجلسها الجماعي أخنوش، ما يضاعف من حدة المفارقة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش.
ليس الاحتجاج الأول:
وتحول المركز الاستشفائي الجهوي الحسن الثاني إلى بؤرة توتر اجتماعي وحقوقي، بعدما بات عنوانا لانهيار منظومة يفترض أن تكفل الحق الدستوري في الصحة، فمنذ مطلع شتنبر الجاري توالت الوقفات الاحتجاجية أمام بوابته الرئيسية، آخرها يوم أمس الأحد حيث اجتمع عشرات المواطنين وفعاليات مدنية للتنديد بما وصفوه بـ”تردي الخدمات، الاكتظاظ، التأخر المزمن في المواعيد، والإهمال المؤدي إلى وفيات كان بالإمكان تفاديها”.
هذه الوقفات ليست حدثا معزولًا، بل امتداد لحراك متنامٍ يختزل غضب ساكنة جهة سوس ماسة، ويكشف عن مفارقة لافتة هي غياب وزارة الصحة عن مشهد أزمة تمس حياة الناس بشكل مباشر، في مدينة يرأس مجلسها الجماعي رئيس الحكومة عزيز أخنوش.
الشعارات التي رُفعت في الوقفة الأخيرة جاءت كاشفة عن حجم القطيعة بين المواطنين والمؤسسة الصحية من قبيل “الشعب يريد إسقاط الفساد”، الذي يستحضر حمولة سياسية وطنية ويعكس انتقال الملف الصحي من مطلب خدماتي إلى قضية حقوقية، إلى “هذا عيب هذا عار.. مقبرة أم سبيطار”، الذي يعيد توصيف المستشفى بوصفه مكانا للموت بدل العلاج، وصولا إلى “سبيطار خاصّو سبيطار”، وهي صيغة ساخرة لكنها بالغة الدلالة، تؤكد أن المؤسسة نفسها تحتاج إلى “إنعاش” قبل أن تُنقذ الأرواح.
أما بعض اللافتات فوصفت المستشفى صراحة بـ”مستشفى الموت”، ما يُثبت أن الساكنة لم تعد ترى فيه فضاءً للشفاء، بل فضاء يهدد الحق في الحياة، وهذه الشعارات جميعها لم تأتِ من فراغ، بل من واقع يومي تُختزل فيه معاناة المرضى بين ممرات مكتظة، وانتظار مواعيد تمتد لأشهر، ونقص في التجهيزات والأدوية وانعدام في الأطر الطبية والتمريضية.
مستشفى الموت:
الحدث المفصلي الذي زاد من تأجيج الغضب كان ما كشفته الشبكة المغربية لحقوق الإنسان في بيان شديد اللهجة عن وفيات متتالية لست نساء حوامل داخل المستشفى، في ظروف تستدعي تحقيقا قضائيا عاجلا وشفافا.
وهذا المعطى نقل الملف من خانة الاحتجاجات المطلبية إلى خانة المساءلة الجنائية، إذ لم يعد الحديث فقط عن “سوء تدبير” أو “ضعف تجهيز”، بل عن إهمال قاتل يؤدي إلى زهق الأرواح، ويستدعي تحديد المسؤوليات ومحاسبة المقصرين.
ووصفت الشبكة الوضع في المستشفى بـ”الكارثي”، مؤكدة أنه تحول من ملاذ آمن للمرضى إلى “مصدر ألم وإهانة”، وحمّلت وزارة الصحة والسلطات الوصية كامل المسؤولية عن هذا الانهيار.
ورغم أن المديرية الجهوية للصحة حاولت مواجهة هذه الاتهامات بلغة الأرقام، مؤكدة أن المستشفى استقبل خلال النصف الأول من العام الجاري أكثر من 33 ألف حالة في قسم المستعجلات بمعدل 250 حالة يوميا، وأجرى 1,761 عملية جراحية مستعجلة، و668 عملية قيصرية من أصل ثلاثة آلاف ولادة، إلى جانب 4,380 فحصا بالسكانر و754 بالرنين المغناطيسي، فإن هذه المؤشرات لم تنعكس على تجربة المواطنين اليومية.
فالأرقام التي تُعلن في البلاغات الرسمية تقابلها على الأرض صور مرضى ينتظرون لساعات دون تدخل، وأسرّة ممتلئة، وأطباء يشتكون من ضغط يفوق طاقتهم، ونساء يفقدن حياتهن في قاعات العمليات وهنا تتجلى الفجوة بين “الرقم المُعلن” و”المعيش اليومي”، وهي فجوة تغذي انعدام الثقة في السياسات الصحية وتؤجج الغضب الشعبي.
غضب عارم ووعود متأخرة:
الأمر لم يتوقف عند حدود الاحتجاج السلمي، بل تطور إلى مواجهة مع القوات العمومية التي تدخلت لتفريق المحتجين أمام البوابة الرئيسية للمستشفى، بعد أن استمر الشكل الاحتجاجي لساعات وهذا التدخل الأمني أضاف بُعدا آخر للأزمة، حيث جُوبِهت مطالب اجتماعية مشروعة بالقوة، بدل فتح حوار أو تقديم حلول ملموسة وهو ما جعل الخطاب الحقوقي يتعزز أكثر، حين شددت الشبكة المغربية لحقوق الإنسان على استعدادها لخوض كافة الأشكال النضالية دفاعا عن الحق في الصحة والحياة الكريمة، داعية القوى المدنية والهيئات الحقوقية إلى توحيد الصفوف للضغط من أجل إصلاح جذري للمنظومة الصحية.
في مقابل هذا التصعيد، تُعلن الحكومة عن مشاريع مستقبلية، بينها اتفاقية شراكة بقيمة 200 مليون درهم لتجديد المستشفى وتجهيزه، ومشروع مركز استشفائي جامعي بسعة 950 سريرا يفترض أن يغطي الحالات المعقدة ويوفر التكوين الطبي والبحث العلمي غير أن هذه المشاريع، مهما بلغت أهميتها على الورق، لم تمنع الغضب من الانفجار لأن أثرها غائب في اللحظة الراهنة، والساكنة تطالب بحلول عاجلة تكمن في تقليص الاكتظاظ، تحسين الاستقبال، توفير التجهيزات المنقذة للحياة، وتعزيز الموارد البشرية.
وتحولت احتجاجات أكادير من صرخة محلية تخص ساكنة الجهة، إلى مرآة وطنية تعكس أزمة ثقة شاملة في المنظومة الصحية العمومية، فالشعارات التي حملت مضامين سياسية وأخلاقية (“الشعب يريد إسقاط الفساد”، “مقبرة أم سبيطار”) تثبت أن الأزمة تجاوزت حدود “الخدمات الصحية” لتصبح قضية “حق وكرامة” كما أن تزامنها مع صمت وزارة الصحة وغياب المسؤولين عن التواصل المباشر مع الرأي العام، يجعل الساكنة تعتبر أن الدولة تُدار بمنطق الإنكار، وأن المؤسسات اختارت الاختفاء بدل مواجهة أزمة تمس حياة الناس.
وما يجري في مستشفى الحسن الثاني بأكادير اليوم بعد اختبارا مزدوجا لصدقية الحكومة التي ترفع شعار “الدولة الاجتماعية”، واختبار لمدى التزامها الفعلي بتفعيل الحق الدستوري في الصحة، وذلك في سنتها التشريعية الاخيرة وفي مدينة يقود مجلسها الجماعي رئيس الحكومة نفسه، ليصبح أي تأخر في إيجاد حلول ملموسة مؤشرا على فشل سياسي بقدر ما هو فشل إداري وتقني وبين خطاب الإصلاح المعلن وواقع المستشفى الموصوف بـ”مستشفى الموت”.
يذكر أن ما يعيشه المركز الاستشفائي الجهوي الحسن الثاني بأكادير لا يمكن فصله عن المفارقة التي تحدث عنها الملك في خطابه الأخير حول “مغرب السرعتين” مغرب المشاريع الكبرى والأوراش المهيكلة، ومغرب آخر ما تزال فئات واسعة من مواطنيه تكابد من أجل الولوج إلى أبسط الخدمات الأساسية وفي مقدمتها الصحة.
“”الصحيفة””