
كتاب وآراء
واكرار:”تآكل الوعي ومنظومة التبليد الفكري..ملتقى السياسات الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية الرقمية في النموذج المغربي”.
يشهد الوعي، كمفهوم بحثي، في المجتمعات المعاصرة تحولا نوعيا لم يعد يقاس فقط بمستوى التعليم أو وفرة المعلومات، بل بقدرة الفرد والمجتمع على إنتاج المعنى وبناء الموقف وممارسة التفكير النقدي في سياق تتزايد فيه الضغوط الاقتصادية والرمزية. في هذا الإطار، يبرز ما يمكن تسميته بتآكل الوعي، ليس بوصفه انقطاعا مفاجئا أو حالة قصوى من الجهل، بل كعملية بطيئة ومتراكمة تفرغ الفعل الفكري من مضمونه وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، وبين الفرد والواقع.
هذا التآكل لا يحدث في فراغ ولا يمكن عزوه إلى عامل واحد أو جهة محددة، بل هو نتيجة تلاقي منظومات مختلفة تشتغل كل منها وفق منطقها الخاص… لكنها تنتج في النهاية الأثر ذاته.
فالسياسات الاقتصادية، حين تبنى أساسا على منطق الاستهلاك والتكيّف السريع مع السوق، تميل إلى اختزال الإنسان في وظيفته الإنتاجية وتعيد ترتيب الأولويات الاجتماعية على حساب البعد النقدي والمعرفي. في المقابل، تسهم الثقافة الاستهلاكية الرقمية في ترسيخ أنماط من التلقي السريع، والانتباه المجزأ والتفاعل السطحي، حيث تصبح المعلومة قيمة استهلاكية آنية لا مادة للفهم أو التأمل.
في النموذج المغربي، تتقاطع هذه الديناميات بشكل لافت. فالتوسع الرقمي، والانتشار الواسع لمنصات التواصل، وتحوّل الإعلام إلى فضاء تنافسي تحكمه نسب المشاهدة، جميعها عوامل أسهمت وتساهم في إعادة تشكيل المجال العمومي. لم يعد النقاش العمومي فضاء لتراكم الأفكار أو لتبادل الحجج، بل أصبح في كثير من الأحيان مجالا لإنتاج ردود فعل سريعة وانفعالات عابرة، تستهلك ثم تستبدل دون أن تترك أثرا معرفيا مستداما.
المثير واللافة في هذه المنظومة أنها لا تقوم على المنع أو الإقصاء المباشر، بل على الإغراق. فالفرد محاط بكم لا يوصف من الخطابات، والصور، والآراء، غير انه محروم من الشروط الذهنية والزمنية التي تسمح له بترتيبها أو مساءلتها، أو تحويلها إلى معرفة. هنا يتحول الامتلاء إلى شكل من أشكال الفراغ.. كما يتحول الحضور الدائم للمعلومة إلى عامل من عوامل تعطيل التفكير بدل تحفيزه.
يلعب التعليم ايضا دورا محوريا في هذا السياق، ليس فقط من خلال المناهج بل عبر الفلسفة الضمنية التي تحكم الممارسة التعليمية. حين يكاف الامتثال أكثر من النقد، ويقدم التكيف بوصفه غاية… يصبح إنتاج العقل الوظيفي أولوية غير معلنة. عقل قادر على الاندماج في النظام القائم، لكنه أقل قدرة على مساءلته أو تخيّل بدائل له. هذا لا يعني غياب الكفاءة أو الذكاء، بل يعني توجيههما نحو أهداف لا تتطلب بالضرورة وعيا نقديا عميقا.
خطورة منظومة التبليد الفكري لا تكمن، و للاسف، في نتائجها المباشرة بل في طابعها التراكمي وغير المرئي. فهي لا تنتج صدمة ولا تثير مقاومة واضحة لأنها تعمل عبر التطبيع. التطبيع مع السطحية، مع السرعة، مع اختزال القضايا المعقدة في تمثيلات مبسطة، ومع تحويل التفكير إلى عبء غير منتج في سياق اجتماعي يثمّن الأداء والنجاعة أكثر مما يثمن الفهم والمعنى.
بذلك يمكن القول ان السيطرة لم تعد ممارسة قسرية بل حالة اصبحت منارسة بنيوية تمارس عبر تنظيم الإيقاع اليومي للحياة وعبر إعادة تشكيل الرغبات والانتباه وأفق التوقعات… وحين يصبح السؤال بدون جدوى أو ينظر إليه كترف فكري،… يكون تآكل الوعي قد بلغ مرحلة متقدمة، حيث يساهم الأفراد أنفسهم، دون قصد، في إعادة إنتاج شروط هذا التآكل.
إن الحديث عن تآكل الوعي في النموذج المغربي لا يهدف إلى إصدار حكم قيمي ولا إلى تبني خطاب تشاؤمي،… بل إلى لفت الانتباه إلى تحول عميق في طبيعة العلاقة بين الإنسان والمعرفة. فالمجتمعات لا تقاس فقط بمؤشرات النمو أو التحديث التقني،… بل تقاس بقدرتها على حماية فضاء التفكير الحر، وعلى إبقاء السؤال حيا بوصفه شرطا أساسيا لأي تطور إنساني حقيقي.
ومن هنا، تبدو استعادة الوعي فعلا معرفيا وأخلاقيا في آن واحد، يبدأ بإعادة الاعتبار للتفكير كقيمة وللبطء كضرورة معرفية ثم للنقد كشرط للانتماء الواعي إلى المجتمع… لأن أخطر ما يمكن أن تواجهه المجتمعات ليس فقدان المعلومة بل فقدان القدرة على التفكير فيها.



