الإنسانية تهزم الإرهاب.. أحمد الأحمد البطل الإنساني.

في مشهد هزَّ الرأي العام، شهد شاطئ بوندي في مدينة سيدني الأسترالية هجوماً مسلحاً استهدف احتفالاً بعيد الأنوار اليهودي، وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 12 شخصاً وإصابة العشرات، في واحدة من أكثر الحوادث دموية التي شهدتها المنطقة.
وجاءت تلك الحادثة لتقطع دابر منطق هؤلاء الثُلّة العنصرية، وتقدّم نموذجاً إنسانياً نادراً، يذكّر العالم بحقيقة أن الإرهاب لا دين له، وأن الإنسانية لا تُقاس بالانتماءات الدينية، وأن العوامل المناهضة للإرهاب ترفض جميع محاولات ربط الإرهاب بأي دين، أو عِرق، أو ثقافة، أو أصل إثني أياً كان نوعه.
وأكدت الحادثة أن البطولة لا تحتاج إلى هوية أيديولوجية، بل إلى شجاعة إنسانية، وأن التعايش الحقيقي يبدأ حين نرى الإنسان وكرامته قبل أي تصنيف.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي أحد المارة وهو يتدخل بشجاعة نادرة، حيث اندفع رجل يرتدي قميصاً أبيض نحو مسلّح كان يحمل بندقية في موقف للسيارات، وانقضّ عليه من الخلف، وتمكَّن من نزع السلاح منه وتوجيهه نحوه، في لحظة فارقة يعتقد أنها أنقذت أرواحاً، ومنعت من تصاعد عدد الضحايا المدنيين جرّاء هذا الهجوم. وسرعان ما انتشر مقطع الفيديو على نطاق واسع، مصحوباً بموجة إشادة كبيرة بشجاعة الرجل، حيث وصفه الكثيرون بالبطل، مؤكدين أن تدخله السريع ربما أنقذ عدداً لا يُحصى من الأرواح. وهو بطل أسترالي مسلم اسمه أحمد الأحمد، يبلغ من العمر 43 عاماً، ومن سكان سيدني.
إن ما قام به ليس مجرد موقف شجاع، بل رسالة إنسانية قوية تؤكد أن الإرهاب لا دين له، وأن القيم الإنسانية من شجاعة، ونخوة، ومروءة، وإنقاذ الأبرياء، يمكن أن تصدر من أي إنسان يؤمن بالحياة وبالقيم والكرامة الإنسانية المشتركة، في الوقت الذي يحاول فيه الإرهاب تشويه الأديان وربطها بالعنف.
يأتي هذا المشهد ليؤكد أن الإنسانية هي الهوية الحقيقية للشعوب، وأن المسلم في صفّ الحياة والتنمية والنهضة، لا القتل والتدمير والعنف، فقد أعاد أحمد الأحمد التذكير بحقيقة مفادها: حين تنهض إنسانية الإنسان، حتماً يسقط الإرهاب.
كان يمكن أن يتحول هذا الهجوم المسلح إلى مجزرة أكبر، لكن أحمد الأحمد، المواطن الأسترالي المسلم، لم تحرّكه شعارات ولا حسابات، بل إحساس فطري بالمسؤولية الأخلاقية تجاه حياة الآخرين. ذلك المواطن الأسترالي لم يسأل عن ديانة الضحايا، ولم يتوقّف ليفكّر في المخاطر، بل اندفع لينزع سلاح أحد المهاجمين، معرّضاً حياته للخطر، ودافعاً ثمناً جسدياً بإصابته برصاصتين. تجلّى ذلك في أرقى حضوره الأخلاقي، ليُعلي المواقف البطولية والقيم العليا للإنسان المتحضِّر، والتعايش السلمي والقبول بالآخر، حيث تلتقي عنده جميع الأديان والفلسفات الإنسانية مهما اختلفت عقائدها، ولكي لا نجعل الإرهاب حكراً على الإسلام، كما فعل ساسة الحكم أو الإعلام المناهض للإسلام بخطابات الكراهية والترويج للإسلام العنيف.
وهذا يمثِّل سابقة تاريخية، ورسالة لرؤساء الدول المتحضرة، بأن الإرهاب ليس له دين ولا جنسية ولا عِرق، وأن الفكر المتعصب وليد الكراهية، ولا بدّ من إظهارها ما دامت تداعيات الإرهاب تُلقي بظلالها على العالم.
لقد كان تجاوب هذا المواطن مع الحدث الإرهابي بأعلى المعايير الأخلاقية والإنسانية، وفعل كل ما يمليه عليه ضميره الإنساني، واتخذ كل التدابير الأمنية لحماية المسالمين، لأن موقفه من العنف كان صادقاً وحقيقياً. وأعطى صورة مثلى وإيجابية للتعامل مع الأزمة، لأنه كان موقفاً متحداً ضد الكراهية، وأنقذ قيم التعايش في وطنه، ووقف متلاحماً ومتضامناً مع أبناء شعبه.
لطالما اعتمد الخطاب المتطرف ـ في الشرق والغرب ـ على ربط العنف بهوية دينية محددة، إما لتبريره أو لاستثماره سياسياً وإعلامياً، غير أن ما فعله أحمد الأحمد ينسف هذا الخطاب من أساسه، فالمسلم هنا لم يكن في صفّ العنف، بل كان حاجزاً بشرياً وطوق نجاة للآخرين، ولم يكن جزءاً من المشكلة، بل عنصراً حاسماً في تقليص آثارها.
ما جرى في بوندي يُعيد توجيه النقاش من سؤال: ما دين الفاعل؟ إلى سؤال أكثر جوهرية: ما القيم التي تحكم سلوك الإنسان عند الاختبار الحقيقي؟ فالدين ـ حين يُقرأ قراءة إنسانية صحيحة ـ يكون دافعاً لحفظ النفس، لا لإزهاقها، ولإنقاذ الإنسان، لا لتصنيفه واختزاله.
أفصح أحمد الأحمد عما كان ينبغي أن يُفصح عنه من حقائق مستترة، جرى التستر عليها لتغييب الشعوب، وهي حتماً من مخلفات اليمين المتطرف، والشعبوية، والإسلاموفوبيا، وكراهية الأديان، والتمييز وفق الأعراق، وعداء المهاجرين، ونبذ الغرباء… إلخ. وجملة من الأعراض المرضية.
في المقابل، جاءت بطولة أحمد من دون خطابات أو ادّعاءات، أو كاميرات معدَّة سابقاً، لتؤكد أن مقاومة الإرهاب لا تكون فقط بالسلاح أو القوانين، بل أيضاً بالشجاعة الفردية والضمير الإنساني والاعتراف بكرامة البشر وبالمواطنة الصالحة.
جاء أحمد الأحمد ليلقّن الإنسانية درساً حقيقياً في التسامح والتعايش والاندماج الوطني الراقي، فقد ثبت خطأ تلك الحسابات، وأصبح هذا العالم من الآن وصاعداً مدعواً لوضع الأمور في نصابها، وتصحيح المفاهيم، ونبذ المزايدات من أجل الفوز والتربّح من هذه القضية، التي باتت تهدِّد حرية الإنسان، بل وجوده، وأضرّت بكل قيم الشراكة الإنسانية.
إن هذا المشهد يفضح التناقض العميق في منطق التعميمات السياسية: كيف يمكن اختزال دين كامل في أفعال إرهابي، بينما يتم تجاهل آلاف المواقف اليومية التي يقدِّم فيها المسلمون ـ وغيرهم ـ نماذج سامية في التضحية وإنقاذ الأرواح والممتلكات وتحقيق العدالة؟
لسنا أمام مجرد حادثة عابرة، بل شهادة حيّة يجب أن تُستثمَر أخلاقياً وإعلامياً لتصحيح السردية السائدة حول الإرهاب، وتأكيد أنه فعل إجرامي لا يمثِّل ديناً ولا ثقافة.
“””لبنى الهاشمي””””