أُثير في الآونة الأخيرة نقاش واسع حول الاتفاقية الموقعة بين الجزائر وتونس في مجال الدفاع والأمن في 7 أكتوبر 2025، خاصة بعد تسريب بعض مضامينها المصنفة ضمن خانة “سري – دفاع”. وبين من يعتبرها خطوة طبيعية لتعزيز الأمن الإقليمي، ومن يرى فيها مساسا بالسيادة الوطنية التونسية، يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام اتفاق دفاعي متكافئ، أم أمام آلية لحماية نظام سياسي مأزوم؟
من حيث الشكل، تندرج الاتفاقية ضمن التعاون الثنائي المشروع بين دولتين جارتين تواجهان تحديات أمنية مشتركة، خصوصا في ظل عدم الاستقرار الإقليمي، وانتشار التهديدات العابرة للحدود. غير أن القراءة المتأنية لبعض بنودها تكشف أن الأمر يتجاوز التنسيق التقني أو تبادل الخبرات، ليصل إلى قلب الوظيفة السيادية للدولة، أي إدارة الأمن الداخلي التونسي وضمان استمرارية مؤسسات الحكم.
تنص الاتفاقية على إمكانية تقديم “مساعدة” عسكرية وأمنية بطلب من أعلى هرم السلطة في تونس، وتشمل هذه المساعدة حماية مؤسسات الدولة، وتحييد ما يوصف بـ“العناصر التخريبية أو المتمردة”، مع إمكانية انتشار القوات العسكرية الجزائرية على أراضي تونس. الإشكال هنا لا يكمن في التعاون ذاته، ولكن في الطابع الفضفاض للمفاهيم المستعملة، والتي تفتح الباب أمام تأويل سياسي أكثر منه أمني، خاصة في سياق داخلي متوتر.
فمصطلحات مثل “التهديدات الداخلية” أو “ضمان استمرارية عمل الدولة” ليست مفاهيم قانونية مضبوطة، فهي عناوين قابلة للتوظيف بحسب موازين القوى والظرف السياسي. وفي غياب رقابة برلمانية فعالة، ونقاش وطني شفاف، يصبح قرار تفعيل هذه البنود رهينًا بإرادة السلطة التنفيذية وحدها، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول توازن السلطات واحترام السيادة الشعبية.
الأكثر حساسية أن الاتفاقية تتيح لقوات أجنبية العمل داخل التراب الوطني التونسي، مع احتفاظها بقيادتها الأصلية، ولو تحت مسمى “التنسيق”. هذا الوضع، عد سابقة في التعاطي مع الأزمات الداخلية، ويقارب نماذج شهدتها دول أخرى حين تحولت الاتفاقيات الأمنية إلى أدوات لتثبيت أنظمة سياسية أكثر من حماية الدول.
اتفاقية وقعت في سياق هشاشة سياسية:
لم توقع هذه الاتفاقية في ظرف طبيعي تتوازن فيه المؤسسات وتعمل فيه آليات الرقابة الدستورية، بل في لحظة تعطيل فعلي للبرلمان، وتهميش للأحزاب، وتضييق على المجتمع المدني، وتركيز غير مسبوق للسلطة التنفيذية. في مثل هذا السياق، يصبح الأمن بديلا عن السياسة، وتتحول الاتفاقيات الدفاعية من أدوات حماية وطنية إلى وسائل تحصين للسلطة الحاكمة ضد مجتمعها.
بند “حماية مؤسسات الدولة والسلطات الشرعية”: حماية من؟
تنص الاتفاقية على تقديم المساعدة من أجل “حماية مؤسسات الدولة والسلطات الشرعية”. هذا البند، في ظاهره، يبدو طبيعيا، لكنه في جوهره إشكالي وخطير. فحين تفرغ الشرعية من مضمونها الانتخابي والمؤسساتي، وتختزل في سلطة الأمر الواقع، يصبح هذا البند غطاء قانونيا لتدخل أجنبي هدفه حماية نظام الحكم وليس حماية الدولة كمجال جامع لكل التونسيين. هنا يتم الخلط المتعمد بين الدولة بوصفها كيانا سياديا جامعا ، والسلطة بوصفها طرفا سياسيا. من بين اطراف أخرى.
تحييد العناصر التخريبية أو المتمردة”: الغموض المقصود:
تستعمل الاتفاقية الموقعة في 7 أكتوبر مصطلحات مثل “العناصر التخريبية” و“المتمردة” دون أي تعريف قانوني دقيق. هذا الغموض ليس بريئا، فهو مقصود، لأنه يسمح بتوسيع مفهوم التهديد ليشمل كل أشكال المعارضة السياسية أو الاحتجاج الاجتماعي. وبهذا، يتحول الاتفاق الأمني إلى أداة لتجريم السياسة والمعارضين، ويمنح التدخل الخارجي شرعية لمواجهة فاعلين مدنيين تحت مسمى محاربة التخريب.
قرار التدخل بيد رأس السلطة: السيادة تختزل:
تنص الوثيقة على أن تفعيل الاتفاقية يتم بطلب من أعلى هرم السلطة في الدولة. معنى ذلك أن قرار استدعاء تدخل أمني أو عسكري جزائري لمعالجة وضع داخلي في تونس لا يمر عبر البرلمان، ولا يخضع لنقاش وطني، ولا تحكمه رقابة دستورية. في هذه اللحظة، لا تعود السيادة قرارا جماعيا أو تعبيرا عن إرادة شعبية، حيث يتم اختزالها في توقيع فردي يستعمل عند الحاجة السياسية.
وجود قوات جزائرية على الأراضي التونسية: كسر الخط الأحمر:
من أخطر ما ورد في الاتفاقية السماح بوجود قوات من الطرف الجزائري داخل التراب التونسي، تعمل بتنسيق مع السلطات المحلية، لكنها تحتفظ بقيادتها الوطنية. حين يتعلق الأمر بتهديد داخلي، فإن هذا الوجود لا يمكن تبريره بتاتا في منطق السيادة. نحن هنا أمام نقل جزئي لوظيفة الأمن الوطني إلى دولة أخرى، بما يضع تونس في موقع التبعية الأمنية لا الشراكة المتكافئة.
تونس تمول تقييد سيادتها:
تنص الاتفاقية أيضًا على أن تتحمل تونس تكاليف “المساعدة” المقدمة لها. هذا البند يكشف جوهر العلاقة غير المتكافئة: الدولة التي يسمح بالتدخل في شؤونها الداخلية هي نفسها التي تمول هذا التدخل. هنا لا نتحدث عن تعاون بين دولتين كلاهما تمارس سيادتها بشكل مستقل ، ولكن امام عن تبعية أمنية ممولة ذاتيا، تدفع من المال العام أي من جيوب الشعب التونسي ومن مقدراته دون نقاش أو مساءلة.
لماذا صنفت الاتفاقية “سريّة للغاية”؟
قد يقال إن السرية أمر طبيعي في الاتفاقيات الدفاعية، لكن في هذه الحالة بالذات، لا يبدو أن السرية وضعت لحماية خطط عسكرية او هجوم عسكري مشترك وشيك بقدر ما استعملت لحجب نقاش سياسي ودستوري ضروري. فالاتفاقية تتناول الأمن الداخلي، وتمنح صلاحيات خطيرة، وتتجاوز المسار المؤسساتي، وكلها أمور لا يمكن تمريرها علنا دون إثارة رفض واسع. السرية هنا تخفي ما لا يمكن الدفاع عنه سياسيا.
غياب الجريدة الرسمية والمصادقة البرلمانية:
حتى الآن، لم ينشر نص الاتفاقية في الجريدة الرسمية في تونس او في الجزائر، ولم تعرض على البرلمان في كلا الدولتين، ولم تناقش داخل المؤسسات التمثيلية. هذا الغياب ليس تفصيلا إجرائيا، فهو في الحقيقة مسألة جوهرية تمس شرعية الاتفاقية نفسها. فالاتفاقيات التي تمس الدفاع والسيادة لا تكتسب مشروعيتها من المصادقة الشعبية غير المباشرة عبر البرلمان، وهو ما لم يحصل.
النظام العسكري الجزائري وإجهاض النموذج الديمقراطي:
لا يمكن فهم هذه الاتفاقية دون وضعها في إطار الرؤية السياسية للنظام العسكري الجزائري، الذي ينظر بعين الريبة إلى أي تجربة ديمقراطية حقيقية في محيطه. نجاح الثورة التونسية كان يشكل خطًا رمزيا وسياسيا على نموذج الحكم القائم في الجزائر. لذلك لم يكن الهدف يوما دعم الانتقال الديمقراطي، بل احتواءه ثم تحجيمه، وصولا إلى دعمه الخيار السلطوي باسم الاستقرار.
من الدعم السياسي إلى الإخضاع الأمني:
شهد الدور الجزائري في تونس انتقالا واضحا من استهداف تونس بعمليات إرهابية متعددة كان هدفها اجهاض التجربة الديمقراطية التونسية الى الدعم السياسي والدبلوماسي لنظام قيس سعيد إلى التنسيق الأمني، ثم إلى إمكانية التدخل المباشر في الشأن الداخلي. هذه الاتفاقية تمثل تتويجا لهذا المسار الذي انطلق منذ سنة 2011 فالعمليات الإرهابية والتخريبية المتوالية التي استهدفت تونس خاصة منذ سنة 2013 وما بعدها، كان الجميع يعلم أن ايادي المخابرات العسكرية الجزائرية هي المسؤولة عنها، بل أن الصحافة التونسية انذاك وجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى النظام العسكري الجزائري.
الذي عمل بشتى الوسائل على افشال كل محاولات الشعب التونسي ليتنفس الصعداء بعد ثورته ، وعمل على عرقلة كل مساعيه من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية، وذلك منذ اليوم الأول من سقوط نظام زين العابدين بنعلي. مما يؤكد أن النظام العسكري الجزائري استطاع، تدريجيا، إخضاع القرار السيادي التونسي، وإجهاض فرصة بناء نموذج ديمقراطي مغاربي كان يمكن أن يعيد تشكيل المنطقة.
أمن بلا ديمقراطية… دولة بلا مناعة:
ما يجري اليوم لا يمكن وصفه بحماية تونس، بل بتأمين نظام سياسي مأزوم عبر اتفاقيات سرية. فالأمن الذي يبنى ضد المجتمع، وبالاستقواء بالخارج، قد يوفر استقرار مؤقتا، لكنه يضعف الدولة على المدى المتوسط، وينسف السيادة، ويغلق أفق الإصلاح. فالدول لا تحمى بإخضاعها، ولا تستقر بإسكات شعوبها، ولكن تبنى بالشرعية، والديمقراطية، والثقة بين الحاكم والمحكوم.
“””محمد الطيار”””
باحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية. رئيس المرصد الوطني للدراسات الاستراتيجية.
الطيار: “اتفاقية الجزائر– تونس..من التعاون الدفاعي إلى إخضاع القرار السيادي التونسي”.
