خط فاصل دون شرطة ولا جيش ولا جدار..شاهد على سخافة نظام الكابرانات الجزائري.

لقد شاهدت وانا اخوض تجربة سياحية جديدة بالحدود الهولندية البلجيكية، مشهدا غير مألوف في ذاكرتنا…هي قرية أوروبية تسمي “بارلي”، تتداخل فيها الحدود بين دولتين أوربيتين؛ إحداهما تضع قدماً في دولة، والثانية تضع قدمها في الدولة الأخرى، فالفاصل بينهما هو خط ليس إلا، ويوجد هذا الحد فى بلدة بارلى المختلطة بشقيها البلجيكى والهولندى.
ولقد رأيت من السلاسة والمرونة في تعامل الدولتين (بلجيكا، هولندا) ومعهما المؤسسات المحلية، إضافة للسكان، في التعاطي مع واقعٍ مألوف لهم – وغير مألوف لنا نحن القادمين من ما يسمى “العالم العربي المسلم” حيث كل عناصر الاتفاق والوحدة حاضرة- حتى صارت القرية مَعلما سياحيا يقصده السياح، ليشاهدوا روعة الاتفاق البشري في واقع لا تتوفر فيه غير عناصر الاختلاف!
أقول هدا وقد ارتبطت الحدود فى أذهاننا في العالم الثالث وخاصة في دهن ما يسمى زورا” العالم العربي المسلم” بالاحتياطات الأمنية والأسوار والحواجز وكاميرات المراقبة…وغيرها من الأمور التي اعتدنا على رؤيتها خلال سفرنا من دولة إلى أخرى على مدا ثلاثين سنة، اي مند اول زيارة الى ليبيا زمن القذافي.
وفي محاولتنا التنقيب عن جدور هدا الوضع الحدودي بين البلدين الاوربيين، أفادنا مرافقنا أن هدا الوضع الحدودي يعود إلى العصور الوسطى، حين وُزعت أجزاء من أراضي المنطقة على مجموعة من العائلات الأرستقراطية المحلية، وكانت بارل هيرتوغ من نصيب دوق برابنت، بينما حصلت أسرة ناسو الحاكمة فى العصور الوسطى على بارل ناسو.
تقع بلدية بارل ناسو الهولندية على مقربة من الحدود البلجيكية الهولندية، وتضم نحو 30 جيبا بلجيكيا، تعرف باسم “بارل هيرتوغ”، وقد تبدو الجيوب البلجيكية على الخريطة في صورة شبكة متشعبة كالأميبا، وبعضها يضم نواة هولندية.
شوارع هذه البلدة تتوزع بين الدولتين، يعنى كل شارع توجد به بناية هولندية وبناية بلجيكية وفى بعض الشوارع يخترق الخط الحدودي البنى التحتية للمدينة فتجد نفس المنزل جزءاً منه هولندياً والآخر بلجيكياً، وهناك مجمع سكنى؛ الطابقان الأول والثاني به بلجيكي ومن الطابق الثالث للأخير هولندي.
ولا يستطيع الزائر للوهلة الأولى التمييز بين الأراضي البلجيكية والهولندية، فهذه البلدة لا تختلف عن المدن الهولندية الصغيرة ذات المنازل المبنية بالطوب الأحمر، ويحمل نحو ثلاثة أرباع سكانها، البالغ عددهم 9.000 ساكن تقريبا، جوازات سفر هولندية، فضلا عن أن حصة البلدية الهولندية من الأراضي فيها تتجاوز حصة البلدية البلجيكية.
لكنك ستلاحظ بعد حين العلامات البيضاء الواضحة على الرصيف، إذ رُسم على أحد جوانب الطريق الحرف الأول من بلجيكا “B”، بينما رُسم على الجانب الآخر الحرفان الأولان من كلمة هولندا “NL”، كما يحمل كل منزل علم الدولة التابع لهاـ وبعض المنازل يحمل بعضها رقمين وجرسين.
ويبلغ عدد سكان البلدتين 9000 نسمة، ولهم الحرية في تسجيل أسمائهم وبياناتهم في أي بلدية من البلديتين، بالإضافة لوجود مركزي شرطة ومكتبي بريد ومركزي إطفاء…إلخ، ولربما شاهدت موظفي البلدتين من رجال الشرطة ومصلحة استخراج الأوراق وغيرهم يعملون في مكتب واحد؛ كلٌ يتبع دولته ويعمل تحت علم بلاده!..
ومن أعجب ما تراه في قرية بارلي هو وجود الخطوط الفاصلة في شوارع القرية لإعلامك كزائر أو مقيم بأنك في سبيلك للعبور بين حدود الدولتين! وحتى وانا الج احد المقاهي هروبا من برودة الأجواء شاهدت الشريط الحدودي يمر تحث رجلي بين كراسي وطاولات المقهى، نعم لقد كنت جلس في مقهى رجلي اليمنى ببلجيكا ورجلي اليسرى بهولندا! بل وهناك ما هو أشد غرابة من ذلك حينما تطالع أحد المنازل وقد دُوَّن عليها رقمين مختلفين أحدهما تابع لبروكسل والثاني تابع لأمستردام(الرقم 19 بهولندا ، والرقم 02 ببلجيكا)!
يحدث كل ذلك دون صدام أبله أو تصعيد ساذج أو كمائن للتفتيش، ولو حدث لهرب السكان ولما حضر السائحون ولما تسامع بها العالم بما يحدث خلال يوميات القرية.
وقد انصرفت بمخيلتي -كعادتي- تلكم التي لا تسمح لي بأن أهنأ بلحظات الاستمتاع وأنا اشاهد جمالية التوافق البشري، رغم ما حدثني به مرافقي  في الطريق عن أصوات محلية تطالب باستقلال المنطقة والمنطقة الفلامنية ككل عن بلجيكا، فجاءتني -مخيلتي- مسرعة بلا شفقة! أصوات انفصالية؟! فلمادا لم تدعمها هولندا كما تفعل الجزائر مع مرتزقة البوليزاريو؟! ولمادا لم نسمع عن الهيئات الاوربية او الأممية تتداول في الموضوع؟!
ودون الإستغراق في البحث عن الجواب، انغمست مخيلتي في دلك المشهد الكئب لواقعنا السخيف في التعامل مع ملف الحدود بين المغرب والجزائر... حيث الكمّ ا الوفير من لجمود والتخلف بل والتشنج في التصعيد غير المبرر، وكأنها من الثوابت المستقرة لدينا حيال النزاعات البينية بيننا! ليصبح من المؤكد عندي بعد مشاهدة متأنية للحدود بين البلدان الاوربية وخاصة الحدود موضع زيارتنا بأن تلك الأزمات الحدودية بين المغرب والجزائر مند خلقتها فرنسا سنة 1960 قد صُنعت لتبقى بين الأشقاء، وبالأصح لتبقى وسيلة لعرقلة المغرب وطموحاتها التنموية، والانتقام منه بسبب مواقفه التاريخية الداعمة لحركات التحرر الافريقية وخاصة الجزائرية.
سنجد في هذه الأزمة الحدودية المصطنعة ما بين الجزائر والمغرب، رغم كل القواسم المشتركة بينهما، ما جعلهم يشتركان في النضال ضد المستعمر الفرنسي، حتى تحول المغرب الى قاعدة خلفية للمقاومة الجزائرية وكل الحركات التحررية الافريقية، رغم الاستهداف الفرنسي…وكان محمد الخامس رحمة الله عليه اول من رفع اسم الجزائر بالأمم المتحدة…ورغم كل دلك فهدا لم يشفع عند عساكر الجزائر من مخلفات الاستعمار الفرنسي، ليوقفوا استهدافهم المقيت للمملكة ومقدساتها.
خاتمة: سامح الله مخيلتي فقد صرفتني من حالة الاستمتاع ب”التوافق البشري رغم كل اكراهات الاختلاف” لتذكرني بالصورة الكئيبة لسخافة” الخلاف البشرية رغم كل القيم المشتركة” !