موضوع الاسرة ليس موضوعا خاصا بالمجال وبالنقاش القانوني والفقهي فقط بل انه اكبر من ذلك فالأسرة كخلية من المجتمع تتصل بالنظام الاجتماعي والسياسي العام وهي بنية من بنيات المجتمع تستوعب الواقع وتغيراته انطلاقا من القواعد الناظمة لمؤسسة الاسرة وما يمليه الاجتهاد الشرعي والتدبير القانوني لذا يأخذ الاجتهاد الفقهي والقانوني بعين الاعتبار ما يشهده العالم المعاصر من موجات فكرية وفلسفية مشبعة بالأنماط الحضارية الحديثة تدعو الى تبني هذه الأنساق الفكرية بمنطق تأطير وتنظيم مناحي الحياة وبالخصوص في مجال الاحوال الشخصية والاسرة مما يفرض ضرورة تأصيل كل اجتهاد اسري وتقعيد منطلقاته صيانة لهذه المؤسسة الاجتماعية من رجات وتحديات اللحظة ورهانات المستقبل.
المغرب كباقي المجتمعات الانسانية خص مؤسسة الاسرة باهتمام بالغ حيث حرص على احاطتها بكافة الضمانات الكفيلة بحمايتها اقتصاديا واجتماعيا وقانونيا ولذا فجميع القوانين والتشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية تؤكد دور الاسرة كنواة للنظام الاجتماعي فهي قلب المجتمع النابض الذي يمده بالحياة وهي التي تمنح افرادها الشعور بالأمان والاستقرار لذا من الضروري توفير الظروف الاقتصادية والثقافية والنفسية التي تضمن استقرار الاسرة وتامين حاجياتها.
ولعل خير مثال على هذا الحرص بأهمية الاسرة ما نص عليه دستور المملكة لسنة 2011 في المادة 32 والتي جاء فيها ان (الاسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الاساسية للمجتمع تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها).
ان دسترة هذه الخلية الاساسية في المجتمع (الاسرة) جاء بعد نضال سياسي واجتماعي وثقافي متواصل منذ سنة 1957 تاريخ ميلاد اول مدونة للأحوال الشخصية مرورا بالحراك الثقافي والسياسي والاعلامي الذي واكب مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ثم وصولا الى مشروع مدونة الاسرة الجديدة المعروضة حاليا على المجلس التشريعي الا انه ما ان تم عرض بعض عناوينها الكبرى حتى برزت المقارعات الفكرية والقانونية والسياسية والمعارك “الكلامية” والصولات “الخطابية” بين المؤيدين والمعارضين والمشككين في المدونة حتى قبل ان تخرج الى الحياة وتحركت العواطف وحشدت الحجج كيفما كانت وباي وجه كان وطغى الاتهام المتبادل وقل الاحترام والتعقل والاتزان لان الهدف عند هذا الطرف او ذاك هو مجرد الرغبة في قهر الخصم والجامه وابادته بسلطان اللسان وليس اقناعه وهذا ما يفسر لجوء المتعاركين والمتقارعين الى استعمال مختلف انواع المقارعات الشخصية التي تتمثل في تقصد ذات المخاطب بدل افكاره ودعاواه.
انه نمط من الخطاب السفسطائي الذي يسود فيه الهجوم المطبوع بنوع من العنف اللفظي والمبارزات الكلامية التي لا تحكمها ضوابط مرجعية موضوعية كما ينجر المقارع او “المحاور” الى اسلوب التهييج العاطفي وشحن المشاعر لكي تغيب كل ملكات التفكير الهادئ والمتزن فيقع الجمهور في براثنهم بسهولة وكأن الهدف من هذه المقارعات _ او المناظرات _ او الحوارات.. هو الظفر او الانتصار على الخصم على حساب القيمة المنطقية والعقلانية للأفكار والحجج والشواهد بحيث تحضر المكابرة والمعاندة مكان الحوار الاقناعي و المدافعة بالحجج فهذا سياسي محافظ لا يستكين وهذا سياسي يساري لا يلين وهذا(اصولي ) مشدود الى تراثه الديني وماضيه وهذا شعبوي لا يعرف اين تبدا بوصلة تفكيره ولا اين ستقف.. بل وحتى المفكرون سايروهم في هذه المقارعات موزعين ومشتتين بين مدافع عن تفكيره الليبيرالي الداعي لفلسفة “الحق” و”العقد الاجتماعي” ووجوب التسليم بهذه الفلسفة في كل العلاقات الاجتماعية بما فيها قانون الاحوال الشخصية واخر علماني حداثي يدعو الى احداث قطائع مع كل العصور التاريخية السابقة والى اهدار القيم الدينية والاجتماعية وحتى القيم الوطنية التي تتعارض مع الحداثة… ولما كان تكوينهم بهذا التشتت الفاحش لزم ان تكون مواقفهم من هذه القضايا الاجتماعية والثقافية هي كذلك شتى حيث هناك المؤيدون لتعديلات المدونة الجديدة في وقت ما زالت لم تعرف عناصرها ومستجداتها ومنهم من يدعون الى قبولها مسبقا بحجة حفظ الامن الاجتماعي والاستقرار النفسي للأسر وهناك الصامتون والصامتات الذين ينتظرون ما يمكن ان تجود به النسخة الجديدة من تغيير وتجديد حتى يدلو بدلوهم ورايهم فيما جادت به المدونة من مستجدات لكن دون ضياع الحقوق المكتسبة.. وهناك الخائفون الذين توسوس لهم انفسهم ان اي تغيير يحدث في المدونة قد يمس بمقاصد الشريعة الاسلامية ومكارمها كما ان هناك الحياديون الذين يحتجون بانهم في شغل عن الخوض في الامور الدينية والفقهية… وهناك المترددون الذين يتقلبون بين التأييد والانكار تتقلب آراؤهم ومصالحهم وحساباتهم.
وتأسيسا على ما سبق يتبين ان الخطاب السائد من قبل كل الاطراف المتقارعة والمتصارعة حول مشروع المدونة الجديدة يجمع بين السياسي والاخلاقي وقد يركب على الاخلاق لتحقيق مارب سياسية وهذا لا يصلح اطلاقا علما انه يجب ان نفصل السياسي عن الاخلاقي لان الاول امر مصلحي اما الثاني فهو امر قيمي. (د. طه عبد الرحمان)
ان المثقف الذي نحتاجه في هذه المعركة لا يجب ان يرابط في ثغر السياسة الا لكي يتجاوزها الى افق التخليق ويروم التصدي لكل ارادة سياسية تحكمية وكذا التصدي للاستئثار الذي تمارسه اي سلطة من السلط القائمة.
وفي هذا الاتجاه يرى الاستاذ طه عبد الرحمان انه يجب وصل الديني بالإنساني لان الدين غير منفصل عن الانسان وبالتالي وجب تصحيح مغالطة سائدة في الفكر الاوربي تغزو عقول مثقفينا وسياسيينا ذلك ان هذا الفكر الغربي يقوم على مسلمات مستخلصة من تجربة الغرب مع الدين بدعوى انه لا حقيقة في الدين لان الدين في نظرهم خرافة وانه لا تمايز بين الاديان وان الدين يعني شان خاص ولتصحيح هذه النظرة الخاطئة يقول الدكتور طه عبد الرحمان (من خصائص المثقف المرابط انه يؤسس الثقافة على الدين بمقتضى ميثاق الامانة اي ائتمان الانسان على القيم المشتركة بين الدين تشريعا والانسان فطرة وبالنتيجة لا يصبح الاصل في الثقافة ان تكون انتاجا قوميا او محليا وانما ان تكون انتاجا انسانيا وعالميا)
ان الدين من المنظور الاسلامي هو اطار تشريعي وتنظيمي شامل هدفه مصلحة الخلق لذلك قال ابن تيمية (الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين ).
كما ان شرارة مشروع هذه المدونة الجديدة وصلت الى العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية واظهرت عيوبها ونقائصها وهكذا فضحت شلل المجالس العلمية وضعف تأثير الجامعات والمعاهد الاسلامية كما عرت الانحرافات الفكرية لعديد من المنتسبين الى النخب السياسية والثقافية
شلل المجالس العلمية
– نحن في حاجة الى مجالس علمية قادرة على فتح قنوات الحوار مع كافة القوى الوطنية الثقافية والسياسية والاجتماعية بكل تلويناتها واتجاهاتها وخاصة فئة الشباب وتنوير رايها في هذا الموضوع (مدونة الاسرة ) حتى نكون على علم عن دور هذه المؤسسة في تقديم الحلول والاحكام الفقهية الشرعية فيما يعرض عليها من مشكلات هذا العصر من العبادات الى نظام الاسرة الى المعاملات الى العلاقات الحقوقية لان حقوق الانسان (وليس حقوق المرأة وحدها) هي نقطة البدء وبالتالي فمهما اختلفت الاجتهادات والتفسيرات في الساحة الوطنية فانه ليس مقبولا ان يسمح بان يتحول الخلاف الى صراع ثقافي وفكري ومذهبي بين افراد هذا المجتمع وعلى المجالس العلمية ان تسارع الى تفسير ما لم يفهم من المدونة وللفرد واي فرد الحق وكل الحق ان يعرف الاحكام الشرعية التي تسري عليه فيما استجد من احكام الاحوال الشخصية في المدونة الحالية او القادمة.
– نحن في حاجة الى مجالس علمية تسدي النصح في هذا الزمن المتسارع لمواجهة تطورات الحياة الانسانية في توسعها واحتياجاتها ومستجداتها وتعقدها ومشكلاتها الاجتماعية والتربوية والاخلاقية فالعلماء والفقهاء هم (اهل الحل والعقد) وورثة الانبياء وهم خواص الطبقة العليا من الامة ورؤسائها ووكلاءها العامة (ابو الحسن اليوسي – الرسالة الكبرى )
– نحن في حاجة الى مجالس علمية تدعو الى تحديث المجتمع وتطوير بنياته ومؤسساته عبر الاجتهاد وتطوير العقل الفقهي وتجديده من اجل قبول التحديث (محمد الحسن الحجوي – الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي -1936)
ان الاجتهاد لا سبيل اليه الا بواسطة علماء الشريعة الذين يجب ان يستيقظوا من سباتهم ويواصلوا الاجتهاد الذي يناسب روح العصر والوقت والحال والمكان والضرورة (نفس المؤلف اعلاه ) فالشريعة الاسلامية شريعة مصالح وحقوق وحرية وعقل وكلها اوصاف تحمل المجتهد على سبر اسرارها من اجل القياس عليها عند استنتاج الاحكام )
هذا الطموح الفقهي المغربي لم يكن غائبا في اي لحظة تاريخية من تاريخ المغرب القديم والحديث اذ استمر منذ قيام الدولة المغربية في القرن الخامس الهجري واستمر حتى اخذ مشعله في عصرنا الحديث فقهاء وعلماء مغاربة من فطاحل السلفية المغربية من امثال ابي شعيب الدكالي ومحمد بلعربي العلوي والمختار السوسي وعبد الله كنون وعلال الفاسي وغيرهم والذين ركزوا على التمكين للعقل ولقيم الحرية والنقد ومنه مبحث الاجتهاد بالمقاصد الذي حرر عدته الفكرية علال الفاسي في مؤلفات متعددة في طليعتها النقد الذاتي ومقاصد الشريعة الاسلامية ومكارمها.
اننا في حاجة الى مجالس علمية تقوم على احياء دور المسجد كمؤسسة علمية ويقول القلقشندي في صبح الاعشى (كان النبي (ص) اول من جمع العرب حوله في حلقة لأخذ العلم وبذلك يكون صلوات الله عليه المعلم الاول للامة ولما كان اتباع سنته واجبا على المسلمين كان لزاما على كل مسلم اذا اتقن عملا ان يعلمه … فزكاة العلم تعليمه)
ومن جهة اخرى يجب التذكير بدور الجامعات الاسلامية في هذا الشأن وماذا قدمت هذه الجامعات من بحوث ودراسات لإغناء الفقه الاسلامي وبالأسلوب العصري الذي يسهل على القانونيين وغير القانونيين فهمه ؟
فأي عذر لجامعاتنا ومعاهدنا وكلياتنا الاسلامية في هذا التقصير؟ واي عذر لأطرها ومدرسيها؟ واي فائدة نستفيدها من الدراسات والبحوث الجامعية العليا التي تنجز في هذه المؤسسات العلمية في مجال العلوم الدينية (القرءان والحديث)؟ ما دور المؤسسات التربوية وما هو الحيز الذي تحتله التربية الاسلامية كعلم قائم بذاته في البرامج المقررة في هذه المعاهد وفي المدارس والاعداديات والثانويات؟ انه حيز ضئيل جدا اذا قورن بما هو مخصص للمواد غير الدينية؟ وبالمقارنة مع المناهج والنظريات التربوية الغربية من حيث تاريخها ومؤسساتها وقواعدها ورجالاتها فإنها ملء العين والتفكير اما فقهاؤنا ومؤرخونا وعلماؤنا فلا يكاد يكون لهم ذكر في هذا المجال الا اليسير وفي يقيننا انه يجب التفكير في انشاء مجامع فقهية وظيفتها القيام بمهمة الاجتهاد حتى يخرج الفقه من عزلته عن الحياة الجديدة ويقرر الحلول والاحكام الفقهية الشرعية فيما يعرض عليه من مشكلات العصر (التيارات الفكرية .. الفرق الدينية.. المذاهب الاعتقادية.. ) وموقف الاسلام منها.
“””ذ. محمد بادرة”””