في خطوة عسكرية وأمنية غير مسبوقة، دشنت الولايات المتحدة ليلة عيد الميلاد 2025 فصلًا جديدًا من تدخلها في القارة السمراء عبر عملية عسكرية استهدفت عناصر تنظيم “داعش” في ولاية سوكوتو. هذه الضربات، التي جاءت بتنسيق مع حكومة أبوجا، لم تكن مجرد رد فعل عسكري على تهديدات إرهابية متصاعدة، بل مثلت ترجمة ميدانية لوعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحماية الأقليات الدينية وتوجيه ضربات “قاتلة” للتنظيمات المتطرفة التي بدأت تتمدد في منطقة الساحل الإفريقي.
تثير هذه العملية تساؤلات جوهرية حول تحول الاستراتيجية الأمريكية من الدعم الاستشاري إلى “المواجهة المباشرة” العابرة للحدود، في وقت تعيش فيه نيجيريا مخاضًا أمنيًا وسياسيًا معقدًا.
فبينما يرى البعض في هذه الضربات طوق نجاة للحكومة النيجيرية لمواجهة جماعات مثل “لاكوروا” الناشئة، تتزايد المخاوف من أن تكون “ولاية سوكوتو” هي الطلقة الأولى في حرب شاملة قد تعيد صياغة موازين القوى في منطقة الساحل، محولةً الأراضي النيجيرية إلى ساحة اختبار رئيسية لنفوذ واشنطن في مواجهة الفوضى الإقليمية.
شراكة تحت الضغط:
رغم نفي السلطات اضطهاد المسيحيين، جاءت موافقة الحكومة النيجيرية على تنفيذ هذه الضربات فوق أراضيها كـ”مخرج اضطراري” بعد أسابيع من الضغوط الدبلوماسية العنيفة التي مارستها إدارة ترامب؛ فالتنسيق المعلن بين الطرفين يعكس رغبة أبوجا في احتواء غضب البيت الأبيض، الذي لوّح مرارًا بقطع المساعدات العسكرية وتصنيف نيجيريا كدولة “فاشلة” في حماية الأقليات.
ويمثل هذا التعاون محاولة من الرئيس بولا تينوبو لتحويل “التهديد الأمريكي” إلى “فرصة أمنية” تساهم في كسر شوكة الجماعات المسلحة التي باتت تهدد شرعية الدولة في الولايات الشمالية؛ فلم يقتصر التنسيق على الضوء الأخضر السياسي، بل شمل غرفة عمليات مشتركة لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول تحركات تنظيم “لاكوروا” و”داعش الساحل”.
هذا المستوى من التعاون يهدف إلى منح العمليات الأمريكية غطاءً قانونيًا وسياديًا أمام المجتمع الدولي، ومحاولة تقليل “الأضرار الجانبية” التي قد تنجم عن القصف الصاروخي، حيث تسعى أبوجا إلى تسويق الضربة كنجاح للتحالف الدولي، وليس كعملية أحادية الجانب تفرضها واشنطن بقوة الأمر الواقع.
ومع ذلك، تضع هذه الضربات الحكومة النيجيرية في مواجهة مأزق سياسي داخلي حرج؛ إذ يُعد السماح بصواريخ “التوماهوك” باختراق الأجواء الوطنية حافزًا لتغذية اتهامات المعارضة والقوى القومية للسلطة بالتنازل عن سيادة الدولة.
وفي المقابل، يمكن أن يؤدي هذا الانخراط العلني مع الولايات المتحدة إلى جعل الجيش النيجيري والمجتمعات المحلية أهدافًا انتقامية سهلة للتنظيمات المتطرفة، التي قد تستغل التدخل الأجنبي في حملاتها الدعائية لتصوير السلطات كـ”وكيل للغرب”، مما قد يعقد جهود المصالحة المجتمعية في المناطق المضطربة.
خارطة النفوذ:
تتجاوز عملية سوكوتو الحدود الجغرافية لنيجيريا لتُسجل بداية مرحلة جديدة من الصراع الدولي على النفوذ في منطقة الساحل وغرب إفريقيا؛ فمن خلال استخدام القوة الصاروخية العابرة للحدود، وجهت واشنطن رسالة مباشرة إلى القوى المنافسة، وعلى رأسها روسيا والصين، مفادها أن الولايات المتحدة تمتلك أدوات حاسمة للتدخل العسكري دون الحاجة إلى قواعد برية دائمة.
ويأتي هذا التحرك في وقت تعاني فيه المنطقة من فراغ أمني كبير عقب انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، مما يجعل من “التوماهوك” الأمريكي أداة لفرض واقع جيوسياسي جديد يمنع سقوط نيجيريا، القوة الاقتصادية الأكبر في القارة، في دوامة نفوذ الخصوم الدوليين.
كما تعكس الضربات تحولًا جذريًا في فلسفة التدخل الأمريكي، حيث انتقلت إدارة ترامب من مقاربة مكافحة الإرهاب التقنية إلى استراتيجية التدخل القيمي عبر ربط الأمن القومي بحماية الأقليات الدينية؛ هذا التوجه يضع دول المنطقة أمام معادلة صعبة، فالتدخل في نيجيريا تحت شعار “منع الإبادة الجماعية للمسيحيين” قد يشكل سابقة قانونية وسياسية تشرعن لواشنطن التدخل في أزمات داخلية مشابهة في دول الجوار.
ومن شأن هذا الربط بين العسكرة والقيم الهوياتية أن يعيد تعريف مفهوم الشرعية الدولية في القارة، ويجعل من ملف الحريات الدينية بوصلة جديدة للعمليات العسكرية الأمريكية في أفريقيا.
أما على مستوى الجماعات العابرة للحدود، فإن استهداف تنظيم “داعش – ولاية الساحل” في شمال نيجيريا يمثل محاولة أمريكية لقطع “شرايين التمدد” بين التنظيمات المتطرفة التي تحاول ربط جبهات القتال من مالي والنيجر وصولًا إلى بحيرة تشاد.
علاوة على ذلك، تهدف هذه الضربات إلى إقامة “جدار ناري” استخباراتي وعسكري يحمي العمق النيجيري من الانهيار الأمني الشامل، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام احتمالات تصعيد إقليمي غير مسبوق، حيث قد تجد دول المنطقة نفسها مجبرة على الاختيار بين الانخراط في “الحلف الأمريكي الجديد” أو مواجهة خطر العزلة الدولية في ظل تصاعد وتيرة “حروب الهوية” في القارة.
المعادن النادرة :
تبرز الدوافع الخفية لواشنطن، والمتعلقة بتأمين الوصول إلى الثروات الهائلة في باطن الأرض الأفريقية، خلف ستار مكافحة الإرهاب وحماية الأقليات؛ فمنطقة شمال نيجيريا والساحل المجاورة ليست مجرد بؤر أمنية، بل هي مخازن استراتيجية للمعادن النادرة واليورانيوم والليثيوم، وهي عناصر حيوية لسيادة التكنولوجيا الأمريكية في مواجهة التنين الصيني.
لذلك، تضمن السيطرة العسكرية غير المباشرة لواشنطن بقاء هذه الموارد بعيدًا عن أيدي الخصوم الدوليين، وتحول مناطق النزاع إلى محميات نفوذ مؤمنة تحت غطاء “الاستقرار الأمني”، مما يجعل من الصاروخ الأمريكي أداة اقتصادية بقدر ما هو سلاح عسكري.
أما عن مستقبل العلاقات بين واشنطن وأبوجا، فإن هذه الضربة تمثل بداية مرحلة “التبعية الأمنية المشروطة”؛ فالحكومة النيجيرية، التي وافقت على التدخل مقابل البقاء السياسي، ستجد نفسها ملزمة بمزيد من التنازلات السيادية في ملفات الطاقة والتجارة الخارجية.
ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تكثيفًا للوجود الاستخباراتي الأمريكي، وربما طلبًا لإنشاء مراكز دعم لوجستي “خفيفة”، مما سيجعل من القرار السيادي النيجيري مرتبطًا بشكل عضوي ببوصلة البيت الأبيض، ويقلص هوامش المناورة لدى أبوجا في علاقاتها المتنامية مع المعسكر الشرقي.
في نهاية المطاف، تظل عملية سوكوتو اختبارًا لقدرة واشنطن على إدارة الأزمات بالوكالة وبالقوة عن بُعد؛ فإذا نجحت هذه المقامرة في تحجيم “داعش” وتأمين المصالح الاقتصادية، فقد نرى تعميمًا لهذا النموذج في دول أفريقية أخرى غنية بالموارد ومضطربة أمنيًا.
ومع ذلك، يبقى الرهان الحقيقي على رد الفعل الشعبي والميداني؛ إذ إن التاريخ القريب يثبت أن التدخلات القائمة على المصالح الخفية غالبًا ما تولد أزمات أعمق، مما قد يجعل من الاستقرار الأمريكي الموعود مجرد هدنة مؤقتة في حرب طويلة الأمد على هوية وموارد القارة السمراء.
“””دعاء إمام”””
باحثة في العلاقات الدولية والإقليمية
